زمان جدتي// بقلم الكاتبة : د. سما سامي بغدادي

زمان جدتي
………………
في رُكنٍ بعيدٍ من الذاكرة، حيثُ يتهادى الضوء بين خُصلات الطفولة ودفءِ الحكايا، كانت تسكنُ جدّتي “نغماشة” كما لو أنّها نغمةٌ انسكبت من عودِ الرّوح، لا تُسمَع بل تُحَسّ.
كانت تعيش في قريةٍ تتدلّى من أطراف الغيم، ينسجُ أهلها الصوف، ويقايضون تعبهم بالعطاء، ويقيسون الغنى بما تفيضُ به القلوب لا بما تُحصيه الأيدي
كانت جدتي نغماشة تعيش في قرية بعيدة وكان أبوها يعمل ندّاف الحي . تغزل نساء العائلة الغزل والصوف وتحيك السجاد مع صبغ الأصواف ..كانت معيشتهم ،حسب ماذكرت والدتي ، تقتصر على مبدأ المقايضة ، وقلما يحصلون على المال مقابل أعمالهم ، فقد كان بيت جدي ملتقى للأعراب .. عند الفجر يأتون إليه للمقايضة بصوفهم ولبنهم وحليبهم وبيضهم  مقابل منتوجات القطن والصوف للأعراس في خان يتوسط دارهم الكبيرة .

فجر بيت جدي  ،  السماء خفيفة بوبرها العاجي ، أناملٌ رقيقة ترص أقراص الخبز
بالقرب من أقداح الشاي ،بشوق شديد يناغي الصباح ، رحيق القهوةٍ وهو يفوح فوق الموقد ، ترقب الثمار اليانعة أيدي قاطفيها  ، وبيت جدي يفوح برائحة خبز التنور الحار الذي كانت جداتي تخبزنه ليؤكل مع البيض واللبن … يعلو فيه ضجيج الرعيان وأصوات بائعات اللبن ، يصيح الديك مترنماً ببكرية اليوم و ألوان الفجر ترسم لوحة مخملية من أنس الزمان
كان جدي يشارك ضيوفه من الأعراب طعامهم ويحدث أن يطعمهم من الزاد الذي يأتون به للمقايضة .. كان يحب السمر والشعر وسماع أحاديث الناس وأخبارهم في قراهم البعيدة .. ولطالما خرجت من بيت جدي (صندقجة )الأعراس الملأى بالبخور ومفروشات العرس , وكان جار بيت جدي شمعون المندائي يختص ببيع الذهب للزواج ، ولم ينفر منه أحد ولم يعاقبه أحد لاختلاف دينه عن دين من يبيعهم الذهب .. حينما كانت أمي تحدثني عن ذاك الزمان تخيلت الفجر في بيت جدي كيف كان جميلا بأنسامه البكر وكم كان محملاً بالأسرار والحكايا والفرح ,وروائح البخور المختلطة بعرق الرعيان وروائح اللبن على أطراف عباءة  بائعة اللبن .تخيلت أني أشاهد لوحة من لوحات المستشرقين التي تتعطر بعبق الماضي وتعج بأنفاس الحياة مادام الزمان ..لعل زمان بيت جدي لايخلو من الهموم ولا تخلو فيه مخيلة الإنسان البسيط من الحلم والأمنية لكنه ربما يشع بالإيمان بمعاني المحبة الفطرية في داخل الناس . لم يكن ذاك العالم يحمل تلك الفردية المتفرعنة لسحق الآخر ، كان كل شيء يجري ببساطة وتلقائيّة مفرطة ، كان كل شيء يحدث بطيبة وبقلب صاف يشارك الآخر مهما اختلف هذا الآخر عنه لأن الفطرة والبساطة لاتدرك الاختلافات والمسميات وإنما تدرك مايناظرها فطرة وطيبة

كانت جدتي نغماشة فتاة جميلة بعينين زرقاوين ووجه أبيض مورد ،لذلك سمّاها جدي نغماشه بمعنى بالعامية .. تداعب أوتار القلب بجمالها  ،  نغماشة الجميلة كانت تسترق السمع لأحاديث السمر في بيت جدي .. ففي ليالي الشتاء كان يجتمع الشعراء والمغنون للسمر والاستمتاع بالحكايا والشعر المغنى .. أحبت جدتي جدي الشاعر الذي كان ينشد شعر الغزل والحب .. دون أن تراه إلا من وراء ستار وهكذا هي المرأة تعشق بأذنيها .. ظلت تعشقه زماناً دون أن يعلم وكانت تستنجد بأمها كلما جاءها خاطب ليخطبها ،حتى طرق الباب مرة للسؤال عن جدي .. ورأى جدتي نغماشه تفتح الباب فانبهر بجمالها  وخطبها من جدي فوراً وتزوجا وعاشا عمريهما بمحبة ومودة خالصة ،  في البساطة والتلقائية إيمان عميق بروح الحياة التي تسكن الحب وقلوب المحبين .

البارحة جاءني طيف غريب , لم أر جدتي في عمري سوى  صورة قديمة احتفظت بها أمي لامرأة عجوز بوجه ودود قالت إنها جدتي , شاهدتها تجلس على فراش مزركش بالألوان والرسوم وكان طيفها حنون الملامح ..أحسست من البداية أنها جدتي , كنت أعبر المكان الذي تجلس فيه و أنا أستنشق عبير المسك الذي يعطر جدراناً  قديمة ، وصلت إليها وسألتها ماهذا الفراش الجميل ؟ أجابت : هذا فراش جدك  !. فأدركت عندما صحوت من طيف جدتي المعبأ بعطور المسك أن الكون يفترش بساطاً ملوناً مخمليّ المعاني يجلس عليه العشاق مادام الزمان !
د.سما سامي بغدادي

اكتب تعليقًا