الأرواح الطيبة … مرايا الوعي
…….. . ………………………
أحيانًا يثقل الجسد بما لا يُرى، وتتشابك الخطوات في دروب تزدحم بالضباب. القلب يئن تحت وطأة ما لم يُقل، والعين تتعب من ملاحقة تفاصيل لا تنتهي. في تلك اللحظات، يصبح أبسط فعل — كترتيب ورقة، أو إغلاق ملف منسي، أو تنظيف زاوية من البيت — بمثابة فتح نافذة يدخل منها النسيم. الأشياء الصغيرة ليست عابرة، إنها مفاتيح تعيد للعالم صوته المنتظم، وتسمح للروح أن تستعيد أنفاسها.
أن تمنح نفسك فسحة للراحة، أن تضع حدودًا واضحة بينك وبين ما يستنزفك، أن تقول “كفى” عندما تفيض الكأس… ذلك ليس هروبًا، بل حماية لزهرةٍ خفية في داخلك، زهرة لا تزهر إلا حين تجد التربة آمنة ترتوي بمعاني السلام
الوعي ليس وجهًا مُشرقًا على الدوام، بل مرآة تعكس النور والظل معًا. أن تكون واعيًا يعني أن تعترف بما يؤلمك كما تحتفي بما يبهجك، أن ترى حزنك كجزء أصيل من حكايتك، لا عارًا عليك إخفاؤه. النور لا يكتمل إلا حين يعانق العتمة، والتمسك باليقين الالهي في قدرة التغير والتسليم المطلق مع السعي في دروب الحياة والصدق مع الذات هو الطريق الوحيد للسلام.
وجودك في هذا العالم إشراقة لها معنى. لم تُلقَ هنا مصادفة، بل لأن لك دورًا لا يملكه سواك. الكون يفتح لك أبوابه حين تتهيأ، والرحمة تلمسك في أدق تفاصيلك، حتى وإن لم تلتفت إليها. كل ما تحتاجه أن تُنصت بهدوء: ستجد أن روحك تعرف الطريق، وأن الطمأنينة كانت دائمًا تسكنك، تنتظر أن تلتفت إليها.
فالروح الطيبة لا تُهزم، بل تنهض من بين ركام التعب، تفتح جناحيها، وتعود إلى ذاتها… هناك حيث يزهر الوعي، وتولد المعجزة.
وهنا يكتمل المشهد بالتماهي الحر مع مفردات الطبيعة وجدلية الحياة بين إشراقٍ وأفول؛ كالشمس حين تغرب لتفسح مجالًا لنجوم الليل، وكالبذرة التي لا تبرعم إلا بعد أن تعانق ظلمة التراب. إنّ الأرواح الطيبة تدرك أن الانطفاء ليس نهاية، بل فسحة لاستجماع النور من جديد، وأن مسيرة الحياة ما هي إلا جدلٌ أبدي بين الغياب والظهور، بين الصمت والموسيقى، بين سقوطٍ يوقظ ونهوضٍ يزهر.
وكما يكتب المطر على وجه التراب قصيدته، تكتب الروح على وجه الوعي قصيدة النهوض. وما بين حفيف الريح وصمت النجوم، نكتشف أنّنا جزء من جدلية الكون إشراقٌ لا يكتمل إلا بأفول، وحضورٌ لا يزهر إلا بعد غياب.
الأرواح الطيبة تعرف هذا السرّ؛ فهي تتماهى مع شجرة في ربيعها، تتجرد مع ورقة في خريفها، وتعود مع نسمة شتوية لتعلن أنّ الحياة لا تنتهي عند حدود الفقد، بل تُجدّد نفسها في أعماقنا عند كل صباح باللطف الالهي والرحمة التي تشمل الكون .
د.سما سامي بغدادي